یتوهم كثیرون عندنا أن الحدیث عن المجتمع المدني یرمي إلى التقلیل من أهمیة الدولة الوطنیة والتشكیك بسیادتها، أو الانتقاص منها، والحد من سلطتها، أو إنه نوع من رؤیة سوسیولوجیة محضة ومتطرفة ترید أن تنأى عن السیاسة وتعزز من ثم عزوف المجتمع عنها. في حین یبین هذا العرض استحالة الفصل المیكانیكي بین المجتمع المدني والدولة الوطنیة، بوصفهما مقولتین مركزیتین في نسق الحداثة، ومعلمین أساسیین من معالمها. فمقولة العقد الاجتماعي التي لا یزال هناك نوع من إجماع على أَنَّهَا أساس نشوء المجتمع المدني تذهب في خط مستقیم إلى الدولة العلمانیة الحدیثة، فلا یمكن أن نرى فیها سوى أساس منطقي لنشوء الدولة، أو هیئة السیادة، بتعبیر روسو. بید أن مضمون اعتراض
المعترضین على فكرة المجتمع المدني ینصب على نفي فكرة الإرادة العامة، لمصلحة إرادات خاصة لا تزال تسیطر على الحقل السیاسي العربي، وعلى "العقل" السیاسي العربي سواء بسواء.1778 ) كتابه الشهیر "العقد الاجتماعي" بقوله: أمن - استهل جان جاك روسو ( 1712 الممكن المستطاع الاهتداء في النظام المدني إلى قاعدة للإدارة شرعیة أكیدة، إذا نظر إلى الناس باعتبار ما هم علیه، وإلى القوانین باعتبار ما یمكن أن تكون؟"( 1) هذا الاستهلال یشیر إلى إشكالیة الكتاب: هل في مستطاع المجتمعات أن تهتدي إلى قاعدة شرعیة أكیدة للحكم؟ قاعدة تنطلق من الواقع كما هو، من البشر الواقعیین، منظوراً إلیهم في واقعهم الفعلي، وإلى ما یمكن أن تكون علیه القوانین التي تنظم شؤون حیاتهم؟. وهي إشارة مهمة إلى مصدر التشریع الذي ینظم الاجتماع المدني؛ ولا یماري روسو في كونه دنیویاً خالصاً. ویضیف: وها أنا ذا أخوض في بحثي دون أن أجيء بالدلیل على ما لموضوعي من خطورة. وقد یسألني سائل: أأنت أمیر مؤمَّر أم أنت مشرِّع؟ وجوابي عن ذلك: أنا لست هذا ولا ذاك، ولهذا السبب أكتب في السیاسة. ولو أنني كنت أمیراً مؤمراً أو مشرعاً لما أضعت وقتي في قول ما یجب عمله، بل كنت أقدمت على العمل أو لزمت الصمت. أما وقد ولدت مواطناً في دولة حرة، وأما إذ أنا عضو في هیئة السیادة ( مواطن، أو عضو في المجتمع المدني وفي الدولة) فمهما كان علیه صوتي من ضعف تأثیر في الشؤون العامة، فإن حق الإدلاء بصوتي هذا، فیما یتعلق بتلك الشؤون، هو كاف لأن یفرض علي واجب الإلمام بها